الأردن في نيويورك : عودة الفارس الهاشمي إلى قلب معركة حلّ الدولتين؟

صوت الحق -
بقلم: د. نعيم الملكاوي / كاتب وباحث سياسي
صوت في زحام نيويورك ، في مدينة تُشبه نفسها دائماً – صاخبة، متدفّقة بالأحداث، محكومة بإيقاع الأسواق والإعلام واللقاءات الدبلوماسية العاجلة – ارتفع صوت جلالة الملك عبدالله الثاني ليذكّر بأن هناك قضية لا تزال تختصر مأساة القرن : فلسطين . في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وأمام مؤتمر "حلّ الدولتين" في نيويورك ، لم يكن خطاب الملك تكراراً لبيانات سابقة ، بل كان رسالة مُحمّلة بقلق وعتب ورؤية : أن غياب الدولة الفلسطينية ليس فراغاً سياسياً، بل قنبلة تهدّد النظام الدولي برمّته .
ماذا قال الملك ؟
في خطابه أمام الأمم المتحدة ، شدّد الملك على أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية ليست خياراً أخلاقياً فحسب ، بل الحلّ الوحيد القادر على إنقاذ المنطقة من انفجار دائم . أشار إلى خطورة الاستيطان ، وإلى أن تجاهل الحق الفلسطيني لن يُنتج إلا مزيداً من العنف . وفي مؤتمر "حل الدولتين"، الذي رعته قوى إقليمية ودولية في نيويورك بمشاركة المملكة العربية السعودية وفرنسا ، كان الملك حاضراً بوصفه ممثلاً لـ"الدور الأردني التاريخي" لا مجرد دولة جارة .
الأسبوع الماضي حمل زخماً غير مسبوق : لقاءات ثنائية مع قادة دوليين ( أميركا ، فرنسا ، السعودية ، إضافة إلى قادة أوروبيين وأفارقة )، تصريحات واضحة تضع الأردن في قلب الاصطفاف الدولي المتجدد لإحياء خيار الدولتين ، ومشاورات ديبلوماسية كثيفة عكست تصميم عمّان على إعادة وضع نفسها في مقدّمة هذا المسار .
الأردن والأوراق التقليدية – عودة إلى الجذور
ما الذي يجعل الأردن قادراً – وربما مضطراً – للعودة إلى واجهة المشهد الفلسطيني ؟
1. الوصاية الهاشمية على القدس : هذه ليست مجرد ورقة رمزية . منذ اتفاق 2013 مع السلطة الفلسطينية ، جرى تثبيت الاعتراف بالدور الأردني وصياً على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس . هذه الشرعية تُعطي الأردن قوة فريدة ، إذ يجمع بين الشرعية الدينية والتاريخية والسياسية. في زمن يبحث فيه الجميع عن " منصة " للحديث باسم القدس ، يملك الأردن تلك المنصة أصلاً .
2. العلاقات الدولية المتوازنة : عمّان لطالما نجحت في نسج علاقات مع واشنطن وأوروبا، كما مع الخليج ومصر. في لحظة استقطاب حاد في المنطقة ، يبدو أن "حياد الأردن النشط" يتحول إلى ميزة: فهو قادر على محاورة الجميع، من ترمب إلى ماكرون ، ومن الرياض إلى القاهرة ، من دون أن يُحسب على محور مغلق .
3. التجربة كوسيط تاريخي: منذ مدريد ووادي عربة وصولاً إلى رعاية حوارات فلسطينية داخلية ، قدّم الأردن نفسه كوسيط عقلاني . هذه التجربة – بكل ما فيها من إخفاقات ونجاحات – تمنحه مصداقية لدى القوى الكبرى التي تبحث عن لاعب لا يضع شروطاً قصوى ، بل يدير حوارات واقعية.
التحديات التي تقيّد العودة الأردنية
لكن هل تكفي هذه الأوراق وحدها ؟ هنا تبدأ الأسئلة الأصعب .
• الاعتماد على الدعم الخارجي: الدور الأردني لا يمكن أن يتحقق بوزنه الكامل من دون شراكة وثيقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض العواصم العربية الكبرى . الأردن بحاجة إلى "مظلّة قوة" تحمي مبادراته من أن تبقى حبراً على ورق .
• حساسية العلاقة مع إسرائيل: معاهدة وادي عربة تحكم الإطار الرسمي ، لكن الواقع السياسي في إسرائيل – مع صعود اليمين المتطرف – يجعل أي تعاون محفوفاً بالمخاطر. الأردن لا يستطيع أن يمضي بعيداً في التصعيد من دون حساب رد الفعل الإسرائيلي ، لا سيما في ملف المياه والحدود واللاجئين .
• الضغوط الداخلية: الشارع الأردني ، المرهق اقتصادياً والمنتفض معنوياً للقضية الفلسطينية ، يريد موقفاً أشد صلابة . لكن عمّان تدرك أن المبالغة في التصعيد قد تضعف استقرارها الاقتصادي والأمني. بين " غضب الشارع " و " واقعية الدولة " ، يسير الملك وحكومته على حبل مشدود .
تكتيكات عمان المحتملة
كيف يمكن للأردن أن يستخدم أوراقه عملياً ؟
1. قيادة جبهة دبلوماسية دولية: الأردن يعمل على حشد اعترافات إضافية بالدولة الفلسطينية ، مستفيداً من الزخم الأوروبي المتزايد ( إسبانيا، إيرلندا، النرويج، وغيرها) . هنا يستطيع الملك أن يكون "مترجماً" فعلياً بين المطالب العربية والآليات الغربية .
2. التشديد على ملف القدس: عبر الوصاية الهاشمية ، يمكن للأردن أن يطالب بآلية دولية لحماية المقدسات ومنع تهويدها . هذا الملف يمنحه ثقلاً مضاعفاً ، لأنه لا يرتبط فقط بالسياسة بل بالعقيدة والرمزية .
3. ربط السياسي بالإنساني: إدماج ملف إعادة إعمار غزة في الرؤية الأردنية لحلّ الدولتين ، بحيث يصبح الأردن بوابة لمشاريع إنسانية واقتصادية تمهّد للسلام الدائم . هذا التكامل بين "الإغاثة" و"السياسة" قد يكون مقبولاً دولياً أكثر من الخطاب السياسي الصرف .
4. العمل عبر تحالفات إقليمية: التحالف الأردني – السعودي – المصري - الفرنسي يشكّل نواة لتحريك المياه الراكدة . إذا أحسن الأردن التوظيف ، فإنه لن يعود لاعباً منفرداً بل جزءاً من "محور الاعتراف بالدولة الفلسطينية" وهو كذلك عبر تاريخ الصراع .
هل الاعتراف بدولة فلسطين لعبة جديدة ؟
سؤال مشروع يطرحه كثيرون : إذا كانت بعض القوى الكبرى هي من ساهمت في تأسيس "الكيان المحتل"، فهل تحرّكها اليوم نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية محاولة لإعادة إنتاج الصراع بشكل آخر؟
الجواب مركّب. نعم، قد يكون الاعتراف – في جانب منه – ورقة ضغط على إسرائيل أكثر منه تعاطفاً مع الفلسطينيين . لكن بالنسبة للأردن ، لا يهم الدافع الذي حرك الاخرين بقدر ما يهم استثمار اللحظة التاريخية. فحتى "اللعبة الدولية" يمكن تحويلها إلى مكسب إذا أحسنت عمّان إدارتها .
بين التاريخ والمستقبل
الأردن لم يكن يوماً على هامش القضية الفلسطينية. جغرافيته ، تركيبته السكانية ، أمنه القومي ، كلها تجعل فلسطين شأناً داخلياً بقدر ما هي شأن خارجي . لكن الفرق اليوم أن عمّان تجد نفسها أمام فرصة لإعادة تثبيت دورها بعد سنوات من التراجع النسبي لصالح قوى أخرى .
الملك يدرك أن اللحظة مواتية : العالم مرهق من الحروب ، وأوروبا تبحث عن تسوية تُخفّف أعباء النزاعات، وأميركا في موسم انتخابي لا تريد انفجاراً جديداً في الشرق الأوسط . إذا لم يلتقط الأردن هذه الفرصة ، فقد يضيع زمناً طويلاً قبل أن تعود نافذة مشابهة .
العودة الأردنية ليست وعداً مضموناً ، لكنها احتمال واقعي . الأوراق التقليدية بيد عمّان لا تزال صالحة ، لكن يجب أن تُترجم إلى أفعال ملموسة : حشد اعترافات ، حماية القدس ، مشاريع إنسانية ، وضغط دولي مدروس .
في رمزية المشهد ، بداْ الملك في نيويورك كفارس يلوّح برايته الهاشمية وسط زحام الأمم ، يذكّر بأن القدس ليست عقاراً قابلاً للتقسيم ، وأن فلسطين ليست هامشاً في دفاتر الساسة ، بل جوهر لا تستقيم من دونه معادلة الشرق الأوسط .
يبقى السؤال مفتوحاً : هل سيكتفي الأردن بدور "الصوت المحذِّر"، أم سيعود ليكون "الفاعل المؤثّر" الذي يُعيد الاعتبار إلى حلّ الدولتين، ويُثبت أن الفارس الهاشمي لا يزال قادراً على قيادة الصف في زمن العواصف؟