أحجار الشطرنج في زمن الهشيم

{title}
صوت الحق -

بقلم د. نعيم الملكاوي / باحث وكاتب سياسي

في هذا الشرق الذي لم تنطفئ نيرانه حتى يبرد رماده بعد، تُعاد رقعة الشطرنج إلى الطاولة، ولكنها هذه المرة على أرضٍ متشققة، تتناثر حولها بقايا الحروب والخرائط المحترقة. يجلس اللاعبون في صمتٍ ثقيل، يتبادلون النظرات بدل التحركات، بينما الشاهُ في الخلف، يختبئ بين جنودٍ من رماد، يخاف أن يسقط قبل أن تبدأ اللعبة فعلاً.

لقد دخلت المنطقة مرحلة "الهشيم”، حيث لا حجر يبقى على حجر، ولا تحالف يثبت على نية . فالمشهد الإقليمي، بعد هدأة السلاح في غزة، وارتداد النار بين تل أبيب وطهران، دخل طوراً جديداً من الصراع الرمادي، لا حربٌ تُعلن ولا سلامٌ يُرسى. وما مؤتمر شرم الشيخ الذي التأم بالأمس إلا محاولة لإعادة ترتيب القطع على الرقعة المبعثرة.

مؤتمرٌ قادته واشنطن، وجمع حوله طيفاً واسعاً من الزعماء العرب والإسلاميين والدوليين تقراء في ملامحهم ما بين السطور وتحت الهوامش ما يحاول البعض تلافي ظهوره ، تحت لافتة "السلام الشامل” و”إعمار غزة”، لكنه في الحقيقة كان أقرب إلى صفٍّ ترتيبِِ جديدٍ للأحجار قبل جولةٍ غير معلنة من اللعب. ومع غياب اللاعبين الرئيسيين عن المشهد ، بدا المؤتمر كمن يُنظّم لعبة بلا شاهٍ ولا خصم، في انتظار أن يُستدعى الطرفان حين تنضج الصفقة لا حين تنزف الحقيقة.

لكن تحت رقعة "السلام”، كانت المشاريع الكبرى تتحرك في الخفاء. فالإقليم بات ميدان تنافسٍ مفتوح بين ثلاثة مشاريع متشابكة ومتزاحمة: المشروع الأمريكي–الإسرائيلي، والمشروع الإيراني، والمشروع التركي في ظل تيه المشروع المعني في المنطقة تاريخياً وجغرافياً.

المشروع الأول، الأمريكي–الإسرائيلي، نجح مؤقتاً في كبح المشروع الإيراني ودفعه خطوات إلى الوراء. فبعد أعوامٍ من التمدد الإيراني في الجغرافيا السياسية عبر الوكلاء والميليشيات، جاء التصعيد العسكري الأخير، ثم هدنة غزة، لتُعيد خلط الأوراق وتُقلّم أظافر طهران الإقليمية. ومع تزايد العزلة السياسية والضغوط الاقتصادية عليها، تراجعت قدرتها على فرض معادلات القوة كما كانت تفعل ذات يومٍ في بغداد ، دمشق د طرابلس أو بيروت .

أما المشروع التركي، فقد جرى احتواؤه بذكاءٍ أمريكيٍّ محسوب. فواشنطن أدركت أن طموح أنقرة لا يمكن إلغاؤه، لكنها تستطيع أن تُحدده وتُحصره في نطاقٍ سياسي واقتصادي واضح، يُبقي تركيا لاعباً حاضراً لا مقرّراً . فتمّ احتواء الحلم العثماني الجديد داخل حدود "الوساطة الدبلوماسية” و”المصالح الاقتصادية”، ليبقى المشروع التركي مشروعاً منضبطاً لا يخرج عن النصّ الأمريكي، ولا يتجاوز السقف المرسوم له.

وبينما تتراجع المشاريع أو تُحتوى، انفرد المشروع الأمريكي–الإسرائيلي بالمسرح، محاولاً ضمّ بعض الدول العربية والإسلامية تحت رداء "التحالف الإبراهيمي” الجديد. فهو مشروع لا يكتفي بالتطبيع السياسي، بل يسعى لخلق نظام إقليمي تُدار فيه المنطقة من داخلها، ولكن بقرارٍ خارجي. تحت شعار "السلام والازدهار”، تُعاد صياغة خرائط النفوذ، وتُربط الاقتصادات بخيوط المصالح الأمنية والعسكرية، لتصبح بعض الدول العربية بيادق متقدمة في خدمة الشاه الأمريكي–الإسرائيلي الذي يحرك اللعبة بثباتٍ ودهاء.

وإذا كانت اتفاقات "إبراهام” تُقدَّم اليوم على أنها جسورٌ للتعاون، فإنها في جوهرها أذرعٌ جديدة للمشروع الأكبر، المشروع الذي يريد أن يجعل من كل حجرٍ عربيٍّ بوابةً نحو استقرارٍ يُبنى على حساب الوعي والذاكرة والحق التاريخي والاجتماعي والجغرافي .

ربما لم يعد السؤال اليوم عمّن يربح اللعبة، بل عمّن يبقى على الرقعة. فكل حجرٍ في هذه الشطرنج الإقليمية معرض للسقوط، وكل تحالفٍ مرشح للتبدّل في لحظة. والشرق، الذي اعتاد أن يحرق المراحل، يبدو اليوم محشوراً بين "شاهٍ يترنّح” و”وزيرٍ يساوم” و”بيادق” تبحث عن معنى النجاة من على قارب الإقليم . 

في زمن الهشيم، لا صوت أعلى من صوت الحذر، ولا عقل أصدق من الذي يقرأ ما بين السطور ويحذر من الهوامش المخفية . فحين يتحرك اللاعبون الكبار على رقعةٍ مغطاةٍ بالرماد، لا تُسمع خطواتهم، بل تُرى ظلالهم فقط… وظلالهم كافية لتشعل العالم من جديد محاولة فرض الهيمنة والسيطرة الحديثة .
تصميم و تطوير : VERTEX WEB SOLUTIONS