تعريب قيادة الجيش جوهرة زينت جبين كل الأردنيين والعرب

{title}
صوت الحق -

بقلم المستشار الاعلامي / جميل  سامي القاضي 


لقد كان قرار تعريب قيادة الجيش العربي الذي اتخذه المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال تجسيدًا لرسالةِ الثورة العربية في الحريّةِ والاستقلالِ، ودافعًا قويًا لتحقيقِ وحدة الأمة، ويغفل أغلبية من يتناولون هذا القرار، عن النظر إلى خطورتهِ ونتائجه في ذلك الوقت العصيب، حيث يعد سابقة قوميّة في تحدي بريطانيا العظمى التي كانت تمتلك كل أوراق الشرق الأوسط وتهيّمن عليها، وهو نقطة الارتكاز التي انطلقت منها فكرة إخراج بريطانيا العظمى من الشرقِ الأوسط، فتبع ذلك القرار، قرار تأميم قناة السويس في (٢٦ تموز ١٩٥٦) الذي اتخذته القيادة المصرية، وتلى ذلك العدوان الثلاثي على مصر العربية، فكان قرار التعريب المحفز الاساسي لاتخاذ  قرار تأميم قناة السويس .


 إلى جانب أهمية الاطلاع على المواقفِ الدولية لهذا القرار القومي التاريخي، حيث نلاحظ موافقة القطبين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي- سابقا- ودعمها لهذا القرار، وإقليميا توافق مصر والسعودية وسوريا ودعمها لهذا القرار الشجاع، والتي جاءت متوافقة مع  الصدى الإيجابي والكبير من جماهيرِ الأمة العربية في مختلف الأقطار، ورفعهم للعلمِ الأردني الخَفاق، وخروجهم في مظاهرات التأييد للأردن وقيادته الشجاعة وجيشه البطل، هذا الجيش الذي كانت انطلاقته من وحي رسالة الثورة العربية الكبرى بقيادة الهاشمين الذين أطلقوا العنان لأبناء الجيش العربي لبناء مؤسستهم العسكرية التي باتت مثالاً يُحتذى، ونبراساً لكل العرب. 


إنَّ تعريب قيادة الجيش العربي هي بالأساس قصة وطن وشجاعة قائد، فالملك الشاب الذي لم يمضِ على توليه سلطاته الدستورية ثلاث سنوات استطاع بشجاعته وحكمته وقوة بصيرته، وأدرك بحسهِ الوطني والقومي وبعد نظره، أنه يستحيل على الجيش العربي أن يتطور أو يتقدم إلا من خلالِ أبنائه المخلصين، وأنه لا يمكن أن يحتل مكانةً مرموقةً عربياً ودولياً، إلا إذا تخلّص من قيادته الأجنبية التي لا همّ لها ولا شأن في تسليحه وتدريبه وتطوير قدرات منتسبي هذا الجيش المصطفوي ، فكان لا بد من اتخاذ قرارًا يسمح لأبناء الوطن بأن يكتبوا تاريخه المشرف ببطولاتهم العظيمة، وتضحياتهم الجسيمة على أرض فلسطين وغيرها من الأرض العربية، وفي شتى بقاع العالم. 


وبالعودة الى تاريخنا الوطني نجد ان مجزرة قبية عام 1953كانت اول دوافع تعريب قيادة الجيش العربي ، حيث مارست دولة الكيان الصهيوني ارهاب الدولة بشكل يومي ومستمر الى يومنا هذا  فمنذ ولادة هذا الكيان المزعوم ، وحتى يومنا هذا يقوم هذا الكيان بمجازر دموية تجاه اهلنا في غزة وفلسطين وجنوب لبنان يقابله صمت غربي مزدوج المعايير ، ومع ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي الذي نحتفل به ، نحاول في هذه المقاربة العودة الى ارهاصات القرار الشجاع الذي اتخذه جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال ، بهدف تحفيز ابناء الامة على اتخاذ قرار عربي موحد تجاه غزة وفلسطين .
فقد كانت الاشتباكات يوميا على خد الهدنة ولعل من اكبرها كانت مجزرة قبية في 14-15/١0/١٩٥٣ ، فكان ذلك الاعتداء الارهابي بداية العد التنازلي لخدمـة كلوب في الجيش العربي، وايضا بالنسبة لعلاقة بريطانيا مع الأردن، وافول بريطانيا العظمى من الشرق الاوسط وهي نقطة تحول في العلاقـات الدولية والنظام العالمي آنذاك ، فعلى إثر مجزرة قبية عاد المغفور له الملك الحسين الـذي كـان يتلقـى العـلاج فـي أوروبـا وزار القرية المنكوبة ، وأمر بإعادة بنائها، وعمل علـى تقويـة الحـرس الوطني لجعله جيشا نظاميا تحت قيادة عربية يتبع وزارة الدفاع ، وأعرب الملك الحسين في خطاب العرش الذي ألقاه في ١/١١/١٩٥٣م عن استنكاره وحزنه، وأعلن أن هذا الحادث حافز لاتخاذ أنجح الوسائل لإحكام الدفاع عن الحـدود ،ورسم سياسة عملية بالاشتراك مع الدول العربية الشقيقة، لتأمين الخطـط الموحـدة لحمايـة الحـدود، ومجابهة العدوان  وطلب أن يهدف منهاج الحكومات إلى مضاعفة الاهتمام بالشؤون العسكرية عامة ، وحـشد الإمكانات بشكل يدفع عنهـا العاديـات ويضمن للمواطنين حياة كريمة .


فكانت هذه المجزرة بداية نهاية النفوذ البريطاني في الأردن والشرق الاوسط ، فغدا تعريب قيادة الجيش مطلبـاً شعبياً ووطنيا وقوميا، واليوم يحدونا الامل بأن نأخذ مما يتعرض له قطاع غزة من ارهاب وتقتيل وتدمير، لاتخاذ موقف قومي في وجه الغطرسة الصهيونية الغاشمة .


وللحق فأن  المغفور له جلالة الملك الحسين عندما كان تلميذاً عسكرياً في كلية ساند هيرست العسكرية كان غير مرتاح للوضع العسكري في الجيش العربي وبخاصة أن على رأس الهرم العسكري قيادة أجنبية متمثلة في الجنرال كلوب والضباط الإنجليز، وأسرّ جلالته لبعض الضباط الأردنيين الذين التقاهم في لندن بأن طموحه أن يكون هناك ضباط أردنيون يتولون قيادة الجيش العربي .

ونستطيع القول ان من دوافع اتخاذ قرار تعريب  قيادة الجيش تمثلت في اختلاف جلالة المغفور له  الملك الحسين كقائد أعلى للجيش العربي مع الجنرال كلوب في مسألتين تتمثلان في دور الضباط العرب في الجيش العربي الأردني والاستراتيجية الدفاعية للقوات المسلحة ، فقد كان جلالة الملك الحسين يرغب في ترفيع الضباط الأردنيين إلى المناصب العليا في الجيش، وأن يتولوا قيادته حيث كانت المعاهدة الأردنية البريطانية تنص على حق الأردن في تلقي مساعدة مالية على أن تقدم بريطانيا الضباط اللازمين لتنظيم الجيش الأردني، ولكن الضباط الإنجليز من الناحية العملية والفعلية كانوا هم الذين يقودون الجيش، وهنا كان جلالة الملك الحسين قد مارس صلاحياته ومسؤولياته في تعزيز ثقة الضباط الأردنيين بأنفسهم وفي ترسيخ روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزيز قناعتهم بمستقبل الأردن، وبدوره إزاء الوطن العربي الكبير.


وبالرجوع الى كتاب ( مهنتي كملك ) يقول المغفور له الملك الحسين حول قراره لتعريب قيادة القوات المسلحة ( كنت أرى أن علينا في حال نشوب حرب أن نؤمن دفاعنا عن طول الحدود الإسرائيلية الأردنية وأن نصمد مهما كلف الأمر حتى الموت، لقد كنت من أنصار الرد الفوري، وعبثاً أبنت وشرحت كل ذلك لكلوب، فقد كان يواصل النصح بمراعاة جانب الحكمة والحذر، وكان يحبذ تراجع قواتنا إلى الضفة الشرقية في حالة قيام هجوم إسرائيلي، وهذا يعني احتلالاً إسرائيلياً، كان ذلك غير معقول)
فقد كان الملك يرى أن دور الأردن دور دفاعي عن الوطن العربي والقوميـة العربية وأن الأردن خط الدفاع الأول عن العرب، واعتبر الملك أن وقوفه في وجه إسرائيل ليس دفاعا عن الأردن فحسب بل عن القومية العربية، وقد أعطى الملك مسؤولية خاصة للأردن فـي ما يتعلق بقضية فلسطين على أساس أن للأردن دورا في التحرير والدفاع عن حرية العرب التي تبدأ بقضية فلسطين وتنتهي بباقي الوطن العربي، وعلى أساس أن الأردن قاعدة للعمل لفلـسطين ضمن عمل عربي موحد، ولها في سياسة الأردن الأولوية والصدارة، وهي محور كفاح الأردن، ويرى أن الاستراتيجية الأردنية  في اعتباره القاعدة الأولى للحشد العربي وركزت عقيدة الملك رحمه الله على أن الصهيونية واليهودية العالمية هي العدو الرئيسي لـلأردن على الصعيد الدولي ، وأنها تهدف إلى إقامة رأس جسر في المنطقة العربية يفصل المغرب عـن المشرق، وأن الصهيونية ما هـي إلا أسـلوب جديـد يتلاقـى مـع المخططـات  الاستعمارية .

وقد تزايد الفتور في العلاقة الأردنيـة البريطانيـة بـسبب تنـامي الأعمـال العدائيـة الإسرائيلية، وبمعنى أدق الإرهاب الإسرائيلي ، الأمر الذي جعل الأردن يبحث عن مصادر دعم بديلة لبريطانيـا، فأعلنت بعض الدول العربية دفع معونة للأردن مقابل إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، على ضوء ذلك سحبت بريطانيا قواتها الجوية من عمان إلى المفرق تمهيداً لإخلائها إلى خـارج الأردن، و أصبح التحالف مع بريطانيا غير مرغوب فيه واتفق الطرفان على إنهـاء المعاهـدة اعتبارا من ١٤ آذار ١٩٥٧ ،وعلى جلاء القوات البريطانية المرابطة في الأردن خـلال سـتة أشهر بهدف  تحرر الأردن من كل نفوذ أجنبي و التخلص من الوجود العـسكري علـى اراضيه.


فكان يوم الخميس الأول من آذار عام 1956 فجرًا عربيًا جديدًا حيث تولى أبناء الوطن شرف قيادة الجيش العربي، والذي يعتبر بمثابةِ حجر الأساس لتولي مسؤولية القيادة العسكرية، وخلق قادة من أبناء الوطن المخلصين، ارتقوا إلى أعلى المناصب رافعين رايات النصر والعز الزاهية بدمائهم الزكية، والمعطرة بترابِ الوطن، حاملين الراية الهاشمية الخفّاقة في الدفاعِ عن الوطنِ وقضايا الأمة. 


هذا القرار القومي التاريخي الجريء بتعريبِ قيادة الجيش وتخليصه من التَبعية الأجنبية، فتح المجال للأردن وراث رسالة الثورة العربية الكبرى العمل في خدمة أمته العربية والإسلامية ونصرة قضاياها، واضعاً نصب عينيه مصلحة وطنه وشعبه وأمته، فالتعريب خطوة جريئة فتحت للأمة آفاقاً رحبة من الانعتاق من التبعية والاستعمار وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وترسيخ روح الكرامة والكبرياء القومي. 


وتعد جلسة مجلس الوزراء التي تحمل الرقم 198 من أهم المواقف المضيئة في تاريخنا، حيث تقرر فيه إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي الأردني وترفيع الزعيم راضي حسن عناب لرتبةِ أمير لواء وتعيينه في منصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي الأردني ليكون أول قائد عسكري أردني يتسلم قيادة أركان الجيش العربي الأردني ، واليوم ومن خلال استذكار الذاكرة الوطنية لهذا الحمى العربي المجيد، نستذكر الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الجمعة الموافق 2 آذار 1956 عندما نقلت الإذاعة الأردنية أنباء الخطوة الجريئة لجلالة الملك الحسين، والتي لم يكن يتوقعها أحد، وحمل الأثير صوت المغفور له الملك الحسين وهو يحمل البشرى بنبرات قوية واضحة في خطاب هذا نصه : "أيها الضباط والجنود البواسل أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم ضباطاً وحرساً وجنوداً وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا أن نجري بعض الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش، اتخذناها متكلين على الله العلي القدير ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتنا، وإنني آمل فيكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة، وأنت أيها الشعب الوفي، هنيئا لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا روح التضحية والفداء ومترسماً نهج الألى في جعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، والسلام عليكم”. 


وبهذه المناسبة الجليلة نقول: لقد كان قرار الحسين قراراً سيادياً ويعتبر خطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذِ الأجنبي ونقطة تحّول هامة في تاريخ العرب الحديث ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، وقد أتاح هذا القرار للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها، وصنع قرارها، بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها وأعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولي المسؤولية، كما أدت خطوة تعريب قيادة الجيش العربي إلى توظيف جميع قدراته وإمكانياته لخدمةِ أمن الوطن وصونِ حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته و بناء مؤسسة عسكرية حديثة امتازت بالانضباط والمشاركة بالخطط التنموية وبناء الوطن والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء والمساهمة في بناء قدرات أبنائه وتأهيلهم في شتى مجالات العمل، فهذا الجيش ساهم في استقرارِ الكثير من الدولِ العربية وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة وتبادل الخبرات وفتح مدارس التدريب لجميع الصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي أهّلت ضباط وأفراد هذا الجيش ليكونوا في الطليعةِ دائماً. 

ويمكن القول أن تعريب قيادة الجيش كان بحق جوهرة زينت جبين كل الأردنيين والعرب ولقد أدرك نشامى الجيش العربي أن مهمتهم الأولى هي الدفاع عن الأردنِ وصون استقلاله وحماية الشرعية فيه، وهاجسهم على الدوام أمنه واستقراره، يبذلون في سبيل حرية وكرامة أهله، أرواحهم ودماءهم منسجمون أبداً مع هويتهم العربية والإسلامية.

 وعلى خطى جلالة الراحل الكبير المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه سار جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم حفظه الله، بالاهتمام بالجيش العربي (عاملين ومتقاعدين) ، حيث شهدت القوات المسلحة التطور الكبير في صنوف الأسلحة المختلفة، ولقي الجيش العربي جل اهتمامه ورعايته وبرعاية جلالته استطاع هذا الجيش أن يتربع على قمة التميز والاحتراف، فسار بخُطى واثقة وخطط مدروسة جعلت منه جيشاً منظماً محترفاً منضبطاً حاز على إعجاب القاصي والداني، ووصل إلى مصاف الجيوش المتقدمة إعداداً وتسليحاً ليتناسب ذلك مع طبيعة التهديد أيّاً كان مصدره ومستواه وحجمه.


 إن أبناء القوات المسلحة الأردنية (عاملين ومتقاعدين) وهم يتفيأون ظلال ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي، يبتهلون إلى المولى عز وجل أن يشمل جلالة المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال بواسع رحمته ورضوانه، ويعاهدون قائدهم الأعلى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم على أن يبقوا درع الأمة وأملها في الدفاع عن الحق وصون الكرامة، يعملون بكل ما أوتوا من قوة وعزم في سبيل الحفاظ على أمن واستقرار الوطن جنوداً أوفياء ورجالاً أقوياء، يسيرون على ذات النهج وذات الطريق، سائلين العلي القدير أن يحفظ جلالة القائد الأعلى سنداً وذخراً للأمتين العربية والإسلامية، وأن يديم على الوطن نعمة الأمن والأمان، وكل عام والوطن وقائد الوطن  والجيش العربي بإلف خير.